ما هي الثقافة؟ الدليل الشامل (التعريف، الخصائص، والوظائف في علم الاجتماع)
ما هو تعريف الثقافة في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا؟ اكتشف الدليل الشامل لخصائص الثقافة (مكتسبة، اجتماعية، مشتركة، قابلة للنقل) ووظائفها الحيوية في تشكيل المجتمع والفرد.
مقدمة: الثقافة - نسيج المجتمع الخفي والظاهر
تُعتبر الثقافة (Culture) من أكثر المفاهيم جوهرية وتداولاً في العلوم الاجتماعية والإنسانية. هي ليست مجرد كلمة نستخدمها لوصف الفنون أو الآداب، بل هي مفهوم عميق وشامل يمثل "النسيج" الذي يربط أفراد المجتمع ببعضهم البعض ويمنحهم هويتهم المشتركة. من علم الاجتماع والأنثروبولوجيا (حيث تُعد مفهوماً مركزياً) إلى علم النفس والعلوم السياسية والاقتصاد، تمثل دراسة الثقافة مدخلاً أساسياً لفهم السلوك البشري والمجتمع ككل.
إن دراسة أي مجتمع بشري تقودنا حتماً إلى دراسة ثقافته. فالمجتمع والثقافة وجهان لعملة واحدة؛ لا يمكن فهم أحدهما بمعزل عن الآخر. تصبح دراسة البنى الاجتماعية، التفاعلات، أو حتى المشكلات الاجتماعية غير مكتملة دون فهم الإطار الثقافي الذي تحدث ضمنه.
![]() |
| ما هي الثقافة؟ الدليل الشامل (التعريف، الخصائص، والوظائف في علم الاجتماع). |
في هذا الدليل الشامل من boukultra.com | شريان المعرفة، سنغوص في أعماق مفهوم الثقافة. سنبدأ باستعراض تعريفات الثقافة المتعددة كما قدمها عمالقة الفكر الاجتماعي مثل إدوارد تايلور ومالينوفسكي، ثم نحلل خصائص الثقافة الأساسية التي تميزها (كونها مكتسبة، اجتماعية، مشتركة، قابلة للنقل، وغيرها)، وأخيراً، سنستكشف وظائف الثقافة الحيوية في تشكيل حياتنا الفردية والجماعية. هذا المقال مصمم ليكون مرجعك الأساسي لفهم هذا المفهوم المحوري.``
الفصل الأول: ما هو تعريف الثقافة؟ (محاولات الإحاطة بالمفهوم)
على الرغم من شيوع استخدام كلمة "ثقافة"، إلا أن تعريفها بدقة يمثل تحدياً كبيراً للعلماء بسبب شموليتها وتعدد أبعادها. لقد قدم علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا تعريفات متنوعة، كل منها يركز على جانب معين، لكنها تتكامل لتشكل فهماً أعمق.
التعريف الكلاسيكي والأكثر شهرة: إدوارد تايلور (E.B. Tylor)
يُعتبر تعريف عالم الأنثروبولوجيا البريطاني إدوارد تايلور (1871) هو التعريف المرجعي والأكثر اقتباساً حتى اليوم:
"الثقافة، أو الحضارة بمعناها الإثنوغرافي الواسع، هي ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة، والمعتقدات، والفن، والأخلاق، والقانون، والعادات، وأي قدرات وعادات أخرى يكتسبها الإنسان بصفته عضواً في المجتمع."
لماذا هذا التعريف مهم؟
- الشمولية: يؤكد أن الثقافة ليست فقط "الفنون الراقية"، بل تشمل كل جوانب حياة الإنسان في المجتمع (المادية وغير المادية).
- الاكتساب: يشدد على أن الثقافة "مكتسبة" (Acquired) وليست موروثة بيولوجياً.
- الاجتماعية: يربط اكتساب الثقافة بـ "عضوية المجتمع".
تعريفات أخرى مهمة:
- برونيسلاف مالينوفسكي (B. Malinowski): ركز على الجانب الوظيفي، معتبراً الثقافة "الإبداع المشترك للإنسان" و**"الوسيلة التي يحقق بها غاياته"**. إنها الجهاز الذي يلبي به الإنسان احتياجاته البيولوجية والنفسية والاجتماعية.
- جراهام وولز (Graham Wallas): أكد على جانب "التراث الاجتماعي"، معتبراً الثقافة "تراكم للأفكار والقيم والأشياء" التي نكتسبها من الأجيال السابقة عن طريق التعلم، على النقيض من التراث البيولوجي (الجينات).
- روبرت بيرستيدت (Robert Bierstedt): قدم تعريفاً شاملاً يجمع الأبعاد الفكرية والسلوكية والمادية: "الثقافة هي الكل المعقد الذي يتألف من كل الطرق التي نفكر بها ونفعل بها وكل ما نملكه كأعضاء في المجتمع".
- سي سي نورث (C.C. North): ركز على الجانب المادي والأداتي: "تتكون الثقافة من الأدوات التي أنشأها الإنسان لمساعدته في تلبية احتياجاته."
خلاصة التعريف:
بشكل عام، يمكن القول إن الثقافة هي "أسلوب حياة" (Way of Life) شامل ومشترك لجماعة من الناس، يتضمن كل ما يتعلمونه، يفكرون فيه، يفعلونه، ويمتلكونه، وينتقل من جيل إلى جيل.
الفصل الثاني: ما هي خصائص الثقافة الأساسية؟
لفهم طبيعة الثقافة بشكل أعمق، يجب تحليل خصائصها المميزة:
1. الثقافة مكتسبة (Culture is Learned/Acquired)
هذه هي الخاصية الأكثر جوهرية. الثقافة لا تورث بيولوجياً عبر الجينات، بل تُكتسب اجتماعياً من خلال عملية التنشئة الاجتماعية (Socialization) والتعلم.
- الفرق بين الطبيعة والثقافة: السلوكيات الفطرية أو الغريزية (مثل التنفس، الرمش) هي بيولوجية وليست ثقافية. أما السلوكيات مثل طريقة الأكل (باليد، بالشوكة، بالعيدان)، لغة الحديث، طريقة التحية (مصافحة، انحناء)، المعتقدات الدينية، فهي كلها مُتعلمة.
- التعلم الاجتماعي: نتعلم الثقافة من خلال التفاعل مع الآخرين (الأسرة، الأصدقاء، المدرسة، الإعلام) عبر الملاحظة، التقليد، والتعليم المباشر.
2. الثقافة اجتماعية (Culture is Social)
الثقافة ليست ظاهرة فردية منعزلة، بل هي نتاج للحياة الاجتماعية والتفاعل بين أفراد المجتمع.
- تنشأ من التفاعل: الأفكار والقيم والمعايير تتطور وتتبلور من خلال تفاعل الناس مع بعضهم البعض لحل مشاكل الحياة المشتركة.
- توجد في المجتمع: لا يمكن لفرد واحد أن "يخلق" ثقافة بمفرده. الثقافة تتطلب جماعة تشاركها وتحافظ عليها. الإنسان يصبح "إنساناً" (بمعنى الكائن الاجتماعي والثقافي) فقط من خلال وجوده وتفاعله ضمن جماعة بشرية.
3. الثقافة مشتركة (Culture is Shared)
الثقافة، بحكم تعريفها، هي شيء مشترك بين أعضاء جماعة أو مجتمع معين.
- ما هو المشترك؟ يشترك أفراد الثقافة الواحدة في فهم مشترك للعالم، قيم مشتركة، معايير سلوك مقبولة، رموز ولغة مشتركة. هذا الفهم المشترك هو ما يجعل التفاعل الاجتماعي المنظم ممكناً.
- ليست فردية: المعتقدات أو العادات الفردية جداً لا تعتبر جزءاً من "الثقافة" بالمعنى السوسيولوجي إلا إذا أصبحت مشتركة ومقبولة من قبل جماعة. الاختراعات الفردية (العلمية أو الفنية) تصبح جزءاً من الثقافة عندما يتم تبنيها ومشاركتها من قبل المجتمع.
4. الثقافة قابلة للنقل (Culture is Transmitted)
الثقافة تنتقل من جيل إلى جيل، مما يضمن استمراريتها وتراكمها.
- آلية النقل: الأداة الرئيسية لنقل الثقافة هي اللغة (المنطوقة والمكتوبة). اللغة تسمح لنا بتعلم تجارب وخبرات ومعارف الأجيال السابقة، وتمريرها للأجيال اللاحقة.
- ليست وراثة: هذا النقل هو عملية تعلم اجتماعي، وليس وراثة جينية. كل جيل جديد يجب أن "يتعلم" ثقافته من جديد.
5. الثقافة رمزية (Culture is Symbolic)
تعتمد الثقافة بشكل كبير على الرموز (Symbols). الرمز هو أي شيء يحمل معنى خاصاً متفقاً عليه من قبل أفراد يتشاركون نفس الثقافة (كلمة، إشارة، شعار، لون، إلخ).
- اللغة كأهم نظام رمزي: اللغة هي مجموعة من الرموز الصوتية والكتابية التي تمكننا من التواصل وتخزين ونقل الأفكار المعقدة.
- أهمية الرموز: بدون القدرة على التفكير الرمزي، لن تكون الثقافة البشرية المعقدة ممكنة. الرموز تسمح لنا بالتفكير في الماضي والمستقبل، وفي المفاهيم المجردة (مثل العدالة أو الحب).
6. الثقافة ديناميكية ومتغيرة (Culture is Dynamic and Changing)
الثقافة ليست شيئاً جامداً أو ثابتاً، بل هي في حالة تغير وتطور مستمر، وإن كان هذا التغير قد يكون بطيئاً أحياناً.
- مصادر التغيير:
- الاكتشاف (Discovery): فهم جديد لشيء موجود بالفعل.
- الاختراع (Invention): خلق شيء جديد (مادي أو فكري).
- الانتشار الثقافي (Cultural Diffusion): استعارة عناصر ثقافية من مجتمعات أخرى (وهو المصدر الأكثر شيوعاً للتغيير).
- التكيف: تتغير الثقافة أيضاً لتتكيف مع التغيرات في البيئة الطبيعية أو الاجتماعية.
7. الثقافة متكاملة (Culture is Integrated)
العناصر المختلفة للثقافة (المعتقدات، القيم، الأعراف، التكنولوجيا، المؤسسات) ليست معزولة، بل هي مترابطة وتشكل كلاً متكاملاً.
- التأثير المتبادل: التغيير في أحد جوانب الثقافة (مثل إدخال تكنولوجيا جديدة كالإنترنت) يؤدي غالباً إلى تغييرات في جوانب أخرى (مثل طريقة التواصل، العلاقات الأسرية، الاقتصاد).
- الاتساق (Consistency): تميل الثقافات إلى درجة معينة من الاتساق بين قيمها وممارساتها، على الرغم من وجود تناقضات داخلية أيضاً.
8. الثقافة متنوعة (Culture Varies)
تختلف الثقافات بشكل كبير من مجتمع إلى آخر. ما يعتبر مقبولاً أو طبيعياً في ثقافة ما قد يكون غريباً أو مرفوضاً في ثقافة أخرى. هذا التنوع هو مصدر ثراء للتجربة الإنسانية ولكنه أيضاً مصدر محتمل لسوء الفهم والصراع إذا لم يتم التعامل معه باحترام وفهم.
الفصل الثالث: ما هي وظائف الثقافة في المجتمع؟
تلعب الثقافة دوراً حيوياً وأساسياً في حياة الفرد والمجتمع. يمكن تلخيص أهم وظائف الثقافة في النقاط التالية:
- الثقافة تجعل الإنسان "إنساناً": هي الخاصية الأساسية التي تميز الإنسان عن باقي الكائنات الحية. من خلال الثقافة (اللغة، الرموز، التعلم الاجتماعي)، يطور الإنسان قدراته العقلية، شخصيته الاجتماعية، ويصبح كائناً أخلاقياً. بدون ثقافة، يظل الإنسان مجرد كائن بيولوجي.
- الثقافة تحدد أسلوب الحياة: توفر الثقافة "خريطة طريق" أو "دليلاً" لكيفية العيش. هي تعلمنا كيف نأكل، نلبس، نتحدث، نتزوج، نعمل، نعبد، ونقضي وقت فراغنا. إنها تعطي لحياتنا معنى ونظاماً.
- الثقافة تحدد المواقف والقيم والأهداف: تزودنا الثقافة بالمعايير التي نحكم بها على الأشياء (ما هو جيد وما هو سيء، ما هو جميل وما هو قبيح، ما هو مرغوب وما هو مرفوض). هي تشكل مواقفنا تجاه العالم وتحدد الأهداف التي نسعى لتحقيقها في حياتنا.
- الثقافة توفر أنماط السلوك المقبول: تقدم لنا الثقافة مجموعة من المعايير (Norms) والعادات (Customs) التي توجه سلوكنا في المواقف الاجتماعية المختلفة وتجعله متوقعاً ومنظماً. هذا يسهل التفاعل الاجتماعي ويقلل من الفوضى والصراعات.
- الثقافة تشكل الشخصية: من خلال عملية التنشئة الاجتماعية، تغرس الثقافة في الأفراد القيم والمعايير وأنماط السلوك المقبولة في مجتمعهم. هذا يساهم بشكل كبير في تشكيل شخصياتهم وهوياتهم الفردية والجماعية. (لقراءة المزيد عن هذا، راجع مقالنا عن علم اجتماع الهوية).
- الثقافة تحقق التكيف مع البيئة: توفر الثقافة للإنسان الأدوات (التكنولوجيا) والمعرفة والمهارات اللازمة للتكيف مع بيئته الطبيعية وتلبية احتياجاته الأساسية للبقاء (مثل الزراعة، بناء المساكن، الطب).
- الثقافة تعزز التضامن الاجتماعي: من خلال القيم والمعتقدات والرموز المشتركة، تخلق الثقافة شعوراً بالانتماء والهوية المشتركة بين أفراد المجتمع، مما يعزز التماسك والتضامن الاجتماعي (كما أكد دوركايم في تحليله للدين والوعي الجمعي).
- الثقافة تتيح التواصل: اللغة، وهي أهم عنصر في الثقافة، هي الأداة الأساسية للتواصل الإنساني، مما يسمح بنقل الأفكار المعقدة، التنسيق بين الأفراد، ونقل التراث الثقافي عبر الأجيال.
خاتمة: الثقافة كإرث وهوية
في ختام رحلتنا، يتضح أن الثقافة هي مفهوم محوري لفهم التجربة الإنسانية بكل تعقيداتها. إنها أكثر من مجرد مجموعة عادات وتقاليد؛ إنها النظام الرمزي والمعرفي والسلوكي الذي يشكل رؤيتنا للعالم، يوجه أفعالنا، ويربطنا بالآخرين وبالأجيال السابقة واللاحقة.
لقد رأينا أن الثقافة مكتسبة، اجتماعية، مشتركة، قابلة للنقل، رمزية، ديناميكية، متكاملة، ومتنوعة. هذه الخصائص تجعلها قوة جبارة في تشكيل حياتنا. كما أن وظائفها المتعددة - من تحديد أسلوب الحياة وتشكيل الشخصية إلى تعزيز التضامن وتمكين التواصل - تجعلها الأساس الذي يقوم عليه أي مجتمع بشري منظم.
دراسة الثقافة، سواء من منظور علم الاجتماع أو الأنثروبولوجيا، ليست مجرد تمرين أكاديمي، بل هي دعوة لفهم أعمق لأنفسنا وللآخرين، وتقدير التنوع الثقافي، والتفكير بشكل نقدي في القيم والمعايير التي تحكم حياتنا.
للاستزادة والتعمق في دراسات الثقافة من منظور سوسيولوجي، يمكنك الرجوع إلى هذه المصادر القيمة:
