الوضعية والتأويلية Positivisme et Interprétivisme: مقارنة بين المنهجين في البحث الاجتماعي.
مقدمة
منذ ظهور علم الاجتماع كعلم مستقل، كانت هناك مناهج متعددة تسعى إلى فهم المجتمعات البشرية وسلوك الأفراد داخلها. من بين هذه المناهج، يعد كل من الوضعية (Positivism) والتأويلية (Interpretivism) من أكثر التيارات الفكرية أهمية وتأثيراً في البحث الاجتماعي. ورغم أن كلا المنهجين يسعيان إلى دراسة المجتمع، إلا أن لكل منهما فلسفته الخاصة حول كيفية فهم السلوك البشري، والعلاقة بين المجتمع والفرد، وكذلك طرق البحث المفضلة.
الوضعية والتأويليّة: مقارنة بين المنهجين في البحث الاجتماعي. |
تأتي هذه المقالة لشرح الفروق الرئيسية بين الوضعية والتأويلية، مع التركيز على العلاقة بين الفرد والمجتمع، والتوجهات العامة للبحث الاجتماعي في كل منهما، وأهم الطرق المستخدمة في الدراسات الاجتماعية التي يتبعها الباحثون ضمن كلا التيارين. سنتناول أيضًا المصطلحات الأساسية التي يعتمد عليها كل منهج، وسنشرح كيف يمكن للباحثين أن يختاروا بين هذين المنهجين بناءً على أهداف دراساتهم.
1. الوضعية (Positivism)
1.1. المفهوم العام للوضعية
الوضعية هي منهج علمي يعتمد بشكل رئيسي على الملاحظة التجريبية والبيانات الكمية في دراسة المجتمع. يعتبر إميل دوركايم من أبرز رواد هذا المنهج، حيث أكد أن المجتمع يتكون من "حقائق اجتماعية" تفرض نفسها على الأفراد بطريقة تشبه القوانين الطبيعية. وفقًا لهذا المنهج، يمكن تفسير السلوك البشري بنفس الطريقة التي نفسر بها الظواهر الطبيعية، من خلال القوانين الثابتة التي تحكم المجتمع.
1.2. العلاقة بين الفرد والمجتمع في الوضعية
يؤمن الوضعيون بأن المجتمع يشكل الفرد، وليس العكس. الأفراد يخضعون لقوانين وأعراف اجتماعية محددة تفرض عليهم من خلال عملية التنشئة الاجتماعية. وبالتالي، يمكن فهم تصرفات الأفراد من خلال دراسة البنية الاجتماعية والطبقية والجنس والخلفية العرقية التي ينتمون إليها.
1.3. أهداف البحث في الوضعية
الهدف الأساسي للبحث في الوضعية هو اكتشاف القوانين التي تحكم سلوك الأفراد داخل المجتمع. الوضعيون يسعون إلى الحصول على نتائج موضوعية يمكن تعميمها على نطاق واسع من خلال استخدام الأساليب العلمية التي تضمن الموثوقية والصلاحية في البحث.
1.4. الطرق المستخدمة في الوضعية
الوضعية تفضل استخدام الأساليب الكمية مثل:
الإحصاءات الرسمية.
الاستبيانات الاجتماعية.
المقابلات المنظمة. هذه الأساليب تمكن الباحثين من جمع بيانات كمية يمكن تحليلها وتعميم النتائج على المجتمع ككل. تعتمد هذه الطرق على فصل الباحث عن المستجيبين لضمان موضوعية البحث وعدم التأثير على النتائج.
1.5. المصطلحات الأساسية في الوضعية
تتضمن المصطلحات الرئيسية التي يعتمد عليها الوضعية ما يلي:
الموضوعية: الحفاظ على حيادية الباحث أثناء جمع البيانات وتحليلها.
التعميم: القدرة على تطبيق النتائج المستخلصة من عينة صغيرة على مجموعة أكبر.
الارتباطات والأسباب: البحث عن العلاقة بين المتغيرات الاجتماعية والقدرة على تفسير السلوك الاجتماعي من خلال تلك العلاقات.
2. التأويلية (Interpretivism)
2.1. المفهوم العام للتأويلية
على النقيض من الوضعية، تتبنى التأويلية منهجًا نوعيًا لفهم المجتمع. هذا التيار الفكري يعتبر أن السلوك البشري لا يمكن تفسيره باستخدام القوانين العامة أو البيانات الكمية وحدها. بل، يجب على الباحثين محاولة فهم المعاني الفردية والذهنية التي يمنحها الأفراد لتصرفاتهم وسلوكياتهم.
2.2. العلاقة بين الفرد والمجتمع في التأويلية
في التأويلية، الفرد لا يُعتبر مجرد دمية تحركها القوى الاجتماعية. بدلاً من ذلك، يُنظر إلى الأفراد على أنهم فاعلون يمتلكون وعيًا وأفكارًا خاصة بهم، ويتصرفون بناءً على تجاربهم الفردية والمعاني التي يضعونها للسياقات الاجتماعية. وبالتالي، يُفسر السلوك الاجتماعي بطريقة ذاتية تختلف من فرد لآخر.
2.3. أهداف البحث في التأويلية
الهدف الرئيسي للتأويليين هو فهم التجارب الفردية بشكل عميق، وذلك من خلال التفاعل مع المستجيبين ومحاولة فهم دوافعهم وسياقاتهم الشخصية. البحث التأويلي لا يهدف إلى التعميم بقدر ما يركز على فهم الحالات الفردية والتفسيرات المتعددة للواقع الاجتماعي.
2.4. الطرق المستخدمة في التأويلية
التأويلية تعتمد على الأساليب النوعية التي تسمح بالتفاعل المباشر مع المستجيبين، مثل:
الوثائق الشخصية.
الملاحظة بالمشاركة.
المقابلات غير المنظمة. تتميز هذه الأساليب بالتركيز على الوصف التفصيلي للحالات الفردية بدلاً من محاولة التعميم.
2.5. المصطلحات الأساسية في التأويلية
تشمل المصطلحات الأساسية للتأويليّة ما يلي:
التفاعل: التركيز على العلاقة التفاعلية بين الباحث والمستجيبين.
الفهم/التعاطف: محاولة فهم العالم من خلال عيون المستجيبين أنفسهم.
الوصف المفصل: الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة للسلوك الاجتماعي وتفسيره بناءً على المعاني الفردية.
3. المقارنة بين الوضعية والتأويليّة
3.1. النظرة للعلاقة بين الفرد والمجتمع
الوضعية ترى أن المجتمع هو الذي يشكل الفرد من خلال القوانين والأعراف الاجتماعية، بينما ترى التأويليّة أن الفرد هو الذي يمنح المعنى للواقع الاجتماعي بناءً على تجاربه الفردية. الوضعية تتبنى منهجًا خارجيًا لفهم السلوك، بينما التأويليّة تركز على الفهم الداخلي للفاعلين الاجتماعيين.
3.2. أهداف البحث
بينما تهدف الوضعية إلى اكتشاف القوانين العامة التي تحكم السلوك الاجتماعي، تركز التأويليّة على فهم الحالات الفردية وتفسيرات المستجيبين لواقعهم الاجتماعي. الباحثون الوضعيون يسعون إلى الوصول إلى نتائج يمكن تعميمها، بينما التأويليون يهتمون بالتفاصيل الدقيقة والتجارب الفردية.
3.3. الأساليب البحثية
تفضل الوضعية الأساليب الكمية مثل الإحصاءات والاستبيانات لجمع البيانات، في حين تعتمد التأويليّة على الأساليب النوعية مثل الملاحظة والمقابلات غير المنظمة لفهم السلوك البشري بشكل أعمق.
3.4. المصطلحات الأساسية
تستخدم الوضعية مصطلحات مثل الموضوعية والتعميم والسببية، بينما تعتمد التأويليّة على مفاهيم مثل التفاعل والفهم والوصف المفصل. التركيز في الوضعية يكون على الحيادية والابتعاد عن المستجيبين، بينما تسعى التأويليّة إلى التفاعل الوثيق مع المستجيبين لفهم معانيهم ودوافعهم.
4. تطبيقات الوضعية والتأويليّة في البحث الاجتماعي
4.1. أمثلة على البحث الوضعي
الدراسات التي تعتمد على الاستبيانات الكبيرة أو الإحصاءات الرسمية هي أمثلة على الأبحاث الوضعية. على سبيل المثال، الدراسات التي تتناول معدلات الجريمة أو الفقر تستخدم غالبًا النهج الوضعي لتحليل البيانات الكمية وتحديد العلاقات السببية.
4.2. أمثلة على البحث التأويلي
الدراسات التي تعتمد على المقابلات الشخصية أو الملاحظة بالمشاركة هي أمثلة على الأبحاث التأويلية. هذه الدراسات تسعى إلى فهم تجارب الأفراد ومعانيهم الخاصة لسلوكياتهم، مثل دراسة حياة المهاجرين أو الفئات المهمشة.
5. أهمية الجمع بين الوضعية والتأويليّة
رغم الاختلافات الواضحة بين الوضعية والتأويليّة، فإن العديد من الباحثين يؤكدون على أهمية الجمع بين المنهجين للحصول على فهم شامل للسلوك الاجتماعي. يمكن استخدام الأساليب الكمية لتحديد العلاقات العامة والاتجاهات الاجتماعية، بينما يمكن استخدام الأساليب النوعية لفهم التجارب الفردية والدوافع الشخصية وراء تلك الاتجاهات.
خاتمة
في نهاية المطاف، يعد كل من المنهج الوضعي والمنهج التأويلي من الأدوات المهمة في دراسة المجتمع البشري. بينما تركز الوضعية على القوانين العامة والبيانات الكمية، تركز التأويليّة على الفهم العميق للتجارب الفردية والمعاني الذاتية. يعتمد اختيار المنهج على طبيعة السؤال البحثي وأهداف الدراسة.