كتاب مفهوم الواقع Reality في العلوم الإنسـانية
مقدمة
إن البحث في ماهية الواقع (Reality) وما يرتبط به من إشكاليات معرفية ومنهجية، يعد من الأبحاث والأسئلة التي أرقت الإنسان ولا زالت تؤرقه، وهو يحاول الإجابة.
يقول عالما الاجتماع برجر (Berger) ولوكمان (Lukman): «ما هو الواقع؟ وكيف نعرفه؟» هذا من بين الأسئلة الأقدم، ليس في البحث الفلسفي فقط، بل في الفكر الإنساني في حد ذاته.»
إن هذا السؤال الذي طرحه العالمان صيغ بأسلوب يتصف بالعمومية، يمكننا تفكيكه لمجموعة من الأسئلة مثل:
ـ هل الواقع هو كل موجود ومعطى وقابل للملاحظة؟ أي كل ما نراه أمامنا من أشخاص وشوارع وسيارات ونباتات وبيانات وطائرات وأشجار ومعامل وشمس وقمر ونجوم، والروائح التي نشمها والأشياء التي نلمسها، والأصوات التي نسمعها، والأطعمة التي نتذوقها...؟
ـ أم أن الواقع يبني في عالم الأفكار والعقل والتخيلات؟ أي أن شكله ووجوده يرتبط بما يروج في عقل الإنسان من أفكار فلسفية، وبراهين علمية، واستدلالات منطقية، وما يحلم به في نومه ويقظته، وما يتخيله ويتصوره ويتخيله في مخيلته...
هل الواقع هو ما يتصوره الفرد حول نفسه وحول المجتمع والكون من حوله تبعاً لأفكاره وإدراكه الخاص؟
أم هو نتاج التصنيفات الاجتماعية والثقافية السائدة عند الجماعة من الناس حول المجتمع والكون وما يرتبط بهما؟
أم أن الواقع هو كل هذه العناصر المذكورة وغيرها بشكل مركب ومتداخل ومتشابك بحيث لا يتم إقصاء أي عنصر منها أو إهماله لكي لا يفقد الواقع جزءاً من ماهيته وخصائصه؟
تبعا لهذه الأسئلة نقول في بداية هذه الدراسة إنه على الرغم من قدم البحث في ماهية الواقع في الفكر الإنساني، ومن كثرة استعمال هذا المفهوم في حقول معرفية مختلفة، وأيضا في المعجم اليومي فإنه يظل من أكثر المفاهيم تعقيداً وغموضاً وتخضع يسره لمعانٍ متعددة تتفاوت في مختلف أبعاده ومستوياته الاصطلاحية. لا سيما عندما يرتبط الأمر بعدة مدارس وأنظار فلسفية لكل منها تفسيراتها وفق منظورها الخاص، فهو "مفهوم بعيد" كما وصفته الفيلسوفة السويسرية جان هيرش (Jeanne Hersch).
إن غاية هذا المفهوم وفق جان هيرش، وغموضه، وصعوبة تحديده، كانت من أهم الأسباب التي سنحاول عقلنا لتخصيص له هذه الدراسة. ونحن لا ندعي أننا سنتمكن من الإجابة عن آخر المطاف، بقدر ما سنسعى ونشمل كافة أوجه السؤال ما هو الواقع؟ وإنما بين ("الاقتراب") ما أمكن من دلالاته ومعانيه ومقاصد استعماله.
كتاب مفهوم الواقع Reality في العلوم الإنسـانية. |
سياقات فلسفية وعلمية واجتماعية؛ تمهيداً لمناقشة بعض أهم الإشكاليات المعرفية والمنهجية المرتبطة بالواقع الإنساني ضمن حقول العلوم الإنسانية والاجتماعية، مع الانفتاح على العلم الآخر، بغرض الوقوف عند الخلفيات، وجوانب التأثير والتأثر بين العلم والاتجاهات الفكرية في تناول هذا الموضوع.
لتحقيق هذا الهدف، قسمنا الدراسة إلى ثلاثة فصول كبرى تتضمن مباحث، ومطالب، ومحاور جزئية: فخصصنا الفصل الأول للتطرق إلى دلالات مفهوم الواقع، والفصل الثاني للتطرق لبعض أهم إشكالياته المعرفية، والفصل الثالث للمناهج المعتمدة في دراسة الواقع الإنساني.
أهمية الدراسة:
يعلمنا الدرس السوسيولوجي أن المفاهيم تعد من أهم دعائم بناء العلوم، فأداة من أدوات فهم موضوعاتها ونظرياتها ومناهجها، وجسر يربط بين مراحلها التاريخية، وينسج العلاقات والتداخلات المعرفية بينها وبين العلوم الأخرى.
إن دراستنا هذه ترتبط بصميم هذا الاهتمام بالمفاهيم، وتحديداً بمفهوم "الواقع" الذي نزيد الحفر في معانيه، ودلالاته الاصطلاحية، والتعمق في امتداداته، وأبعاده، ومقاصد استعماله في العلوم الإنسانية، بالإضافة إلى مناقشة بعض الإشكاليات المعرفية المطروحة حول "الواقع"، وكذا المناهج المستخدمة لدراسته. وتوضيح مدى تأثير العلوم الإنسانية والفلسفة والعلم الطبيعية في دراستها لهذا الموضوع.
= "الحقيقة المطلقة"، بل هي محاولات، كأي محاولات بحثية أخرى في حقول معرفية عديدة، تسعى جاهدة "للأقرب" من الحقيقة تخرج العلوم بنتائجها. وبما أن كل علم يعبر عن "حقيقته المطلقة"، فإنه من الصعب الحفاظ على "صيغة الحقيقة"، سواء أكانت فلسفية أو تجريبية، في تخصصات العلوم، مما قد يفرض علينا توخي الدقة في معالجتنا للواقع، ومحاولة وصفه، وأوصافه، في ضوء منظور "الإنسان العارف" الذي تدرسه العلوم الإنسانية.
إن أهمية هذا البحث المرتكز على مفهوم الواقع وإشكالياته تبرز في راهنية موضوعه رغم قدم البحث فيه؛ لأنه لا يزال يطرح تحدياً كبيراً أمام الفلاسفة والعلماء الطبيعيين والرياضيين، والعلماء الاجتماعيين أيضاً، وستمر عقولهم لاكتشاف، ومعرفة أسراره، وفهم إشكالياته بعمق، لا سيما في هذا العصر الذي يشهد تغيرات وتحولات سريعة وغير متوقعة أحياناً، وفي مختلف الميادين والأبعاد المعرفية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية، والاقتصادية، والطبيعية...
إشكالية الدراسة
كيف ناقش العلماء والباحثون في العلوم الإنسانية مسألة ماهية مفهوم الواقع بين المعطى الحسي التجريبي، وبين البناء الذهني والثقافي؟ وإلى أي حد تأثرت منظوراتهم بالنقاش الإبستمولوجي، الكلاسيكي والمعاصر، الدائر في الفلسفة والعلوم الطبيعية حول هذه المسألة وما يرتبط بها من إشكاليات معرفية ومنهجية؟