أقسام الوصول السريع (مربع البحث)

📁 آخر الأخبار

كلود ليفي ستراوس: عرّاب الأنثروبولوجيا البنيوية

كلود ليفي ستراوس: عرّاب الأنثروبولوجيا البنيوية

مقدمة

يُعتبر كلود ليفي ستراوس (1908-2009) أحد أعظم علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا في القرن العشرين. برغم أن أعماله تناولت موضوعات متنوعة مثل الأساطير والقرابة والبنية الاجتماعية، إلا أن إسهامه الأكبر كان في تأسيس المدرسة البنيوية في الأنثروبولوجيا. تُركز البنيوية على دراسة الظواهر الثقافية من خلال الأنماط والبُنى الأساسية التي تشكلها، وليس من خلال تفاعلات الأفراد فقط.

كلود ليفي ستراوس: عرّاب الأنثروبولوجيا البنيوية
كلود ليفي ستراوس: عرّاب الأنثروبولوجيا البنيوية.

 في هذا المقال، سنتناول حياة وأعمال ليفي ستراوس وتأثيره الكبير على مجال الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع.

نشأة كلود ليفي ستراوس وتعليمه

وُلد ليفي ستراوس في بروكسل، بلجيكا، في عام 1908 لعائلة يهودية فرنسية. انتقلت أسرته إلى فرنسا عندما كان صغيرًا، حيث نشأ وتلقى تعليمه. درس القانون والفلسفة في جامعة السوربون بباريس، ولكنه سرعان ما انجذب إلى الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع بعد أن أدرك أن الفلسفة لا توفر الأجوبة الكافية على الأسئلة المتعلقة بالبنية الاجتماعية والثقافية.

كان تأثره بالعلوم الإنسانية كبيرًا، خاصةً بفكراء مثل إميل دوركهايم ومارسيل موس. وقد ساهم هذا التأثير في تشكيل نظرته الاجتماعية والثقافية التي تتجاوز الفرد لتدرس الأنظمة الكاملة.

الرحلة إلى البرازيل والتأثير على فكره

بدأت مسيرته المهنية في الأنثروبولوجيا في البرازيل خلال الثلاثينيات، حيث عمل أستاذًا في جامعة ساو باولو. خلال هذه الفترة، قام برحلات ميدانية لدراسة المجتمعات الأصلية في منطقة الأمازون، مثل قبائل "كايابو" و"نيموكوندا". كانت هذه التجربة نقطة تحول في حياته العلمية، حيث لاحظ أن هذه المجتمعات "البدائية"، كما وصفها الغرب في ذلك الوقت، تمتلك نظمًا اجتماعية وثقافية معقدة مثل تلك الموجودة في المجتمعات الغربية. هذه الملاحظة دفعت ليفي ستراوس إلى التفكير في مفهوم "البنية" الذي أصبح فيما بعد حجر الزاوية في نظرياته.
كانت هذه المجتمعات، من وجهة نظر ليفي ستراوس، تمتلك نظمًا قوية من القرابة والأساطير، والتي يمكن دراستها بشكل مشابه لدراسة اللغات. وهنا بدأ ليفي ستراوس في تبني فكرة أن المجتمعات البشرية تشترك في بنى ثقافية معينة يمكن دراستها علميًا.

مفهوم البنيوية


غلاف كتاب الانثروبولوجيا البنيوية.
غلاف كتاب الانثروبولوجيا البنيوية.

يُعتبر مفهوم البنيوية من أشهر الإسهامات التي قدمها ليفي ستراوس في مجال الأنثروبولوجيا. البنيوية تنظر إلى الثقافة على أنها مجموعة من الأنظمة المرتبطة ببعضها البعض، مثل اللغة والأساطير والقرابة. بدلاً من التركيز على الأفراد أو الأحداث الفردية، تركز البنيوية على الأنماط التي تُشكل المجتمعات والثقافات.
أحد أمثلة التحليل البنيوي لدى ليفي ستراوس هو دراسته للأساطير. في كتابه "الأسطورة والمعنى" (Myth and Meaning)، أظهر كيف أن الأساطير في مختلف الثقافات تحتوي على بنى مشتركة، حتى لو كانت شخصيات وأحداث الأساطير مختلفة. رأى ليفي ستراوس أن هذه البنى الأسطورية تعكس طريقة تفكير البشر العالمية وتعتبر جزءًا أساسيًا من فهم الثقافة.

الأسطورة والعقلانية


غلاف كتاب الأسطورة والمعنى.
غلاف كتاب الأسطورة والمعنى.

إحدى أهم أفكار ليفي ستراوس هي أن الأساطير ليست مجرد قصص خيالية تُستخدم للتسلية أو لتفسير الظواهر الطبيعية كما كان يُعتقد سابقًا. بدلاً من ذلك، اعتقد أن الأساطير تحتوي على منطق داخلي يعكس كيفية تنظيم الناس لأفكارهم عن العالم. وهكذا، كان يرى أن الأسطورة تعمل بطريقة مشابهة للغة، فهي تتكون من وحدات صغيرة (مثل الكلمات في اللغة) التي يمكن دمجها بطرق معينة لتكوين معانٍ أعمق.
كانت أعمال ليفي ستراوس في هذا المجال ثورية لأنها أظهرت أن التفكير الأسطوري ليس بالضرورة بدائيًا أو غير عقلاني. بل على العكس، أظهر كيف أن التفكير الأسطوري يمكن أن يكون منطقيًا ومعقدًا للغاية، تمامًا مثل التفكير العلمي أو الفلسفي.

العلاقة بين الثقافة والطبيعة


غلاف كتاب العرق و التاريخ.
غلاف كتاب العرق و التاريخ.

من أبرز المفاهيم التي ناقشها ليفي ستراوس هي العلاقة بين الثقافة والطبيعة. في كتابه "الفكر البدائي" (The Savage Mind)، أظهر ليفي ستراوس كيف أن الثقافات المختلفة تضع حدودًا بين ما هو طبيعي وما هو ثقافي. على سبيل المثال، تُحدد الثقافات ما هو صالح للأكل وما هو غير صالح من خلال تصنيفات ثقافية، وليس من خلال اعتبارات بيولوجية بحتة. وهذا ما يُظهر أن الطبيعة والثقافة ليستا متعارضتين كما كان يُعتقد سابقًا، بل متداخلتين ومعقدتين.

النقد والتأثير

على الرغم من تأثير ليفي ستراوس الكبير على الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع، إلا أن أعماله لم تخلو من النقد. أحد أبرز الانتقادات التي وُجهت له كانت تتعلق بتجاهله للديناميكيات الاجتماعية والاقتصادية التي تؤثر على المجتمعات. فالبنيوية تركز على البُنى الثابتة والأنماط المستمرة، مما يجعلها تتجاهل أحيانًا التغييرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

كما أن بعض الباحثين رأوا أن تحليلاته كانت مُبهمة ومعقدة جدًا، مما جعلها صعبة الفهم والتطبيق. رغم ذلك، لا يمكن إنكار أن تأثير ليفي ستراوس كان هائلًا على الحقول الأكاديمية المختلفة، بما في ذلك علم الاجتماع، وعلم الإنسان، واللسانيات.

إرث كلود ليفي ستراوس


غلاف كتاب الأنثروبولوجيا في مواجهة مشاكل العالم الحديث.
غلاف كتاب الأنثروبولوجيا في مواجهة مشاكل العالم الحديث.

إلى جانب عمله الأكاديمي، ترك ليفي ستراوس إرثًا فكريًا يتجاوز الأنثروبولوجيا. فمفهوم البنيوية الذي أسسه تجاوز حدود الأنثروبولوجيا ليدخل في مجالات أخرى مثل الأدب، والفلسفة، وعلم النفس، وحتى الفنون البصرية. تأثر العديد من المفكرين البنيويين البارزين، مثل ميشيل فوكو وجاك دريدا، بأعماله، مما جعل تأثيره يمتد إلى مجموعة واسعة من المجالات الأكاديمية.

أعمال ليفي ستراوس الرئيسية

كتب ليفي ستراوس العديد من الكتب التي أصبحت كلاسيكيات في مجال الأنثروبولوجيا. من أبرز أعماله:

1. "القرابة والبنية الاجتماعية" (Les Structures élémentaires de la parenté): يتناول فيه العلاقات الاجتماعية وأنظمة الزواج والقرابة في الثقافات المختلفة.

2. "الفكر البدائي" (La Pensée Sauvage): يُحلل فيه كيفية تنظيم البشر لأفكارهم حول العالم الطبيعي والثقافي.

3. "الأسطورة والمعنى" (Myth and Meaning): يقدم فيه تحليلًا بنيويًا للأساطير في الثقافات المختلفة.

الخاتمة

في نهاية المطاف، يُعتبر كلود ليفي ستراوس أحد أعمدة الأنثروبولوجيا الحديثة. بفضل رؤيته البنيوية، تمكن من تقديم فهم جديد للمجتمعات والثقافات البشرية، ليس فقط من خلال دراسة الأفراد أو الظواهر السطحية، ولكن من خلال التركيز على الأنماط والبُنى التي تشكل تلك المجتمعات. وعلى الرغم من الانتقادات التي وُجهت له، فإن تأثيره لا يزال قائمًا بقوة في الدراسات الاجتماعية والإنسانية.

لتحميل المزيد عن كلود ليفي شتراوس والأنثروبولوجيا البنيوية، يمكنك زيارة الرابط التالي: كلود ليفي شتراوس _ الأنثروبولوجيا البنيوية.pdf.
تعليقات