📁 آخر الأخبار

هل يمكن دراسة الظاهرة الانسانية بطريقة علمية تجريبية؟

هل يمكن دراسة الظاهرة الانسانية بطريقة علمية تجريبية؟

ان التقدم والتطور الذي حققته الدراسة التجريبية وما احرزته من نجاح في علوم المادة الجامدة والحية جعل منها نموذجا لكل معرفة تسعى لتحقيق الدقة والموضوعية خاصة بعد اقتحام هذا المنهج كل الميادين وخاصة ميدان العلوم الانسانية التي هي علوم معنوية روحية تهتم بدراسة ما هو كائن و موجود كحوادث انسانية متنوعة ومتعددة نفسية اجتماعية تاريخية. 

هل يمكن دراسة الظاهرة الانسانية بطريقة علمية تجريبية؟
هل يمكن دراسة الظاهرة الانسانية بطريقة علمية تجريبية؟.

وقد اثارت الدراسة العلمية جدالا فكريا بين الفلاسفة والمفكرين حول امكانية تطبيق المنهج العلمي على العلوم الانسانية فهناك المؤيد لتطبيق هذا المنهج وهناك المعارض لذلك ومن هذا الاختلاف والتباين في الافكار نطرح الاشكال الآتي : هل يمكن تطبيق المنهج التجريبي على العلوم الانسانية وبعبارة اخرى : هل يمكن اخضاع الظاهرة الانسانية للتجريب ؟

الموقف الأول: 

يرى انصار هذا الطرح أنه لا يمكن دراسة الظواهر الانسانية دراسة تجريبية علمية لان هناك عوائق اعترضت العلماء في مختلف ابحاثهم من بينها عائق الذاتية فإذا كان التفسير العلمي يقتضي الموضوعية والحياد فان الامر يختلف مع عالم الظواهر الانسانية حيث تبقي في كل ابعادها تحت سيطرة الاحكام الذاتية فالدارس في هذه الظواهر لا يمكنه ان يتخلى عن قيمه ومبادئه. فنظرته تؤثر على نتائج الدراسة وهذا يتنافى مع الروح العلمية التي تقتضي الموضوعية أي لا بد من دراسة الموضوع كما هو قال محمد عابد الجابري "ان من اهم شروط الموضوعية هو ان تكون احلامنا نابعة من الواقع كما هو وان يكون الواقع مستقلا عن ذاتيتنا ولكي تكون الدراسة موضوعية يجب ان يكون موقف الدارس من الظاهرة نزيها بمعنى ان ظواهرها ليست مستقلة بل هي اكثر التصاقا بالانسان وبارادته وشعوره مما يجعلها ذات طبيعة كيفية تخضع للوصف لا الكم ويجعل الوصول إلى الموضوعية أمر صعب قال محمد عابد الجابري" ولكن هذه الشروط لا تتوفر في الظاهرة الانسانية عند محاولة البحث فيها اذ ان ملاحظات واحكام الدارسة تتاثر بانتمائه وثقافته و تجريبته وتصوراته الخاصة " كما تتميز الظاهرة الانسانية بالتعقيد فهي متداخلة الابعاد ومتشعبة مما يصعب الوقوف على حقيقتها تجريبيا لانه لا يمكن عزل احد جوانبها دون الأخر. كما لا يستطيع الباحث تكرارها بنفس الكيفية وحتي وان تكررت فانها لا تكون بنفس الدقة وفي نفس الظروف وهذا يدل على ان السلوك الانساني يتميز بالحرية فهو يفلت من الحتمية التي هي اساس القانون العلمي فمثلا : عالم الاجتماع إذا اراد دراسة ظاهرة التسرب المدرسي يجد نفسه ملزما بدراسة الظروف الاقتصادية للطفل والمستوى الثقافي للوالدين وحتي الحالات النفسية مما يفضي الى القول بانها ليست ظاهرة اجتماعية خالصة قال محمد وقيدي ان الانسان واحد والعلوم الانسانية متعددة والفعل الذي يصدر عن الانسان لا ينطبق في وحدته على التصورات التي تكونها عنه العلوم الانسانية المختلفة التي يكتفي كل منها بالنظر في الانسان من هذا الجانب او ذاك " وما يخلع الصبغة العلمية عن العلوم الانسانية ومما زاد في بطء تقدمها هو تعذر القيام بالملاحظة المباشرة فالمؤرخ مثلا يتناول التاريخ واحداثه فقط من خلال الآثار التي قد تكون مشوهة أو غير كافية أو مغلوطة وهذا ما من شانه أن يؤثر على نتائج الدراسة وما يقال عن الملاحظة يقال بالمثل عن التجريب حيث لا يمكن تكرار الظواهر الانسانية في نفس ظروفها وملابساتها وهذا ما يجعل الفرضيات التي يضعها الباحث عرضة للشك والطعن إذ ما من سبيل للتاكد من صحتها بالأضافة الى ان ما يميز الحادثة التاريخية هي انها ماضية فهي اذن فريدة من نوعها لانها لا تحدث الا مرة واحدة محدودة بزمان ومكان وبظروف لا تتكرر فهي غير قابلة لإعادتها مرة اخرى بطرق اصطناعية مما يؤدي الى استحالة الوصول الى قوانين وبالتالي التنبؤ بها مستقبلا وعليه فلا يمكن تطبيق المنهج التجريبي عليها اما الظاهرة النفسية فهي حادثة معنوية ومتغيرة لا تعرف السكون وليس لها مكان معين وبالتالي فإن هناك صعوبة في ملاحظتها بدقة لانها حادثة كيفية يمكن وصفها عن طريق اللغة ولا يمكن قياسها وضبطها كميا أي انعدام القوانين وبتالي لا يمكن تعميمها على بقية الظواهر لانها داخلية لا يدركها مباشرة الا الشخص الذي يعيشها قال مونتاني" لا أحد يعرف هل انت جبان او طاغية الا انت فالآخرين لا يرونك ابدا".

النقد

على الرغم من ان هناك عوائق في تطبيق المنهج التجريبي وذلك لاختلاف الحاصل بين المادة الجامدة والعلوم الانسانية لكن تكييف هذا المنهج وخطواته مع طبيعة الموضوع في العلوم الانسانية ساعد العلماء على تجاوز العقبات السابقة ومحاولة الوصول الى الموضوعية مما ادى الى تقدم هذه العلوم.

الموقف الثاني :

يرى انصار هذا الطرح انه يمكن دراسة الظواهر الانسانية دراسة تجريبية علمية من اجل تحقيق نتائج معتبرة, وهم بذلك يتجاوزن الراي القائل باستحالة تمتع العلوم الانسانية بالموضوعية قال بول موي " والواقع ان من الممكن ان يكون الانسان موضوعا لعلم وضعي لانه يمكن ان يخضع لملاحظات منهجية ولان سلوكه يتم عن اطرادات منتظمة وعن صور اجمالية تشهد بوجود طبيعة بشرية يمكن تعميمها " ففي الحادثة التاريخية مثلا: تم تناولها ودراستها دراسة موضوعية وهذا باعتماد على منهج علمي ينسجم مع طبيعة الحوادث التاريخية. ويعود الفضل في ذلك الى عبد الرحمان بن خلدون الذي عرف كيف يكيف هذا المنهج للوصول الى الموضوعية وذلك بجمع المصادر مثل : الكتب والصور والنقود والمعاهدات الدبلوماسية ليمارس بعدها المؤرخ عملية النقد هذا الأخير يشمل النقد الخارجي والذي يفحص فيها المؤرخ شكل الوثيقة ومادتها بالاستعانة ببعض العلوم منها التحليل الكيميائي والجغرافيا والجيولوجيا أما النقد الداخلي فيتناول المؤرخ من خلاله محتوى الوثيقة ويختبر صحتها من اجل اكتشاف المزيف من هذه المصادر سوى كانت هذه ارادية او غير ارادية ثم العمل على تحليل هذه المصادر و التحقق منها لأنها ليست سليمة دائما من حيث الشكل والمضمون قال ابن خلدون "... فان النفس اذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر اعطته حقه من التمحيص والنظر حتى يتبين صدقه من كذبه "فبعد عملية الجمع والنقد ينتقل المؤرخ الى اعادة بناء الحادثة التاريخية من جديد من خلال ترتيب وتفسير الحوادث التاريخية وذلك بارجاعها الى اسبابها الاجتماعية والسياسية والعقائدية وهذا ما يؤكد بان التاريخ يعتمد على العلمية كبقية العلوم التجريبية الأخرى اما الحادثة الاجتماعية فالمهتمين بهذا المجال وفي مقدمتهم بن خلدون واوغست كونت وايميل دور کایم أكدوا على امكانية دراسة هذا النوع من الظواهر وفق طرق ومناهج علمية لا تقل اهمية عما كان معمول به في العلوم الطبيعية قال اوغست كونت" وانني اعني بالفيزياء الاجتماعية العلم الذي تكون دراسة الظواهر الاجتماعية فيه موضوعية وان ينظر الى هذه الظواهر بنفس الروح التي ينظر بها الى القضايا الفلكية او الطبيعية " وقال دور كايم يجب أن نعالج الظواهر الاجتماعية على انها اشياء ". " والغرض من ذلك هو الوصول الى القوانين التي تتحكم فيها فبعد ملاحظة عالم الاجتماع لظاهرة اجتماعية ما كالبطالة او الانتحار .. يقوم بوضع الفروض و للتأكد منها يلجا الى وسائل ميدانية مثل سبر الآراء المقابلة الشخصية الاستفتاء دراسة العينات ... ويتعين على عالم الاجتماع في ظل هذه الدراسة التحلي بروح العالم الفيزيائي والكيميائي أي ان يعتبر الحوادث الاجتماعية اشياء وان يتناولها من الخارج من دون اية فكرة مسبقة. أما فيما يخص الحادثة النفسية فقد ادرك علماء النفس أن الموضوعية ليست حكرا على العلوم التجريبية فقط بل يمكن دراسة الحوادث النفسية بمقياس تجريبي ويعود الفصل في ذلك الى جون واطسون الذي فتحت أبحاثه افاقا واسعة وجديدة في دائرة الدراسات النفسية حيث انتقل العلماء من دراسة الظاهرة النفسية الشعورية كما كان موجود لدى ديكارت الى دراسة السلوك باعتباره المرأة العاكسة للحادثة النفسية عن طريق الملاحظة الخارجية قال واطسون" ان علم النفس كما يرى السلوكي فرع موضوعي تجريبي محض من فروع العلوم الطبيعية هدفه التنبؤ عن السلوك وضبطه بمعنى ان فهم النفس الانسانية يكمن من دراسة الافعال السلوكية في تجلياتها الخارجية أي من حيث السلوك الذي يقوم به الفرد وان يتم تحليله تحليلا علميا أي كمنعكسات شرطية مثير" استجابة " فمثلا الخوف حسب المدرسة السلوكية لا يمكن دراسته كحالة شعورية بل كسلوك أي من حيث الاثار البادية على الشخص . مثل احمرار الوجه والارتعاش ... قال بيار نافيل "ان سلوك الكائنات البشرية يمكن دائما وصفه بلغة المثيرات والاستجابات " كل هذا يؤكد اعتماد الظاهرة الانسانية على مناهج علمية في الدراسة لا تقل اهمية على ما كان موجود في علوم المادة الجامدة و الهدف من هذا هو الكشف عن الحقائق ومعرفة على الظاهرة وأسبابها .

النقد

على الرغم من ان تطبيق الدراسة العلمية والمنهج التجريبي على العلوم الانسانية أمر ممكن لكن الذاتية واللاحتمية لا زالتا تكونان عقبة ابستمولوجية في الدراسات الانسانية وتؤثر على دقة النتائج . وهذا يدل على تعثر العلماء وعدم قدرتهم على فهم السلوك الانساني فهما صحيحا وكافيا وهذا ما يؤدي الى التشويش والغموض في معرفة الموضوع وهذا ما يجعلها تتصف بالنسبة والاحتمالية.

التركيب

ان العلوم الانسانية بتنوعها يمكن تطبيق المنهج التجريبي عليها لكن شريطة ان يكيف هذا المنهج بما يتلاءم وينسجم مع خصائص الظاهرة المدروسة وذلك بمنهجية وخطوات تختلف عن كيفية تطبيقها في علوم المادة الجامدة نتيجة اختلاف طبيعة الموضوعات بينهما وبالتالي فالدراسة العلمية الموضوعية في هذه العلوم امر ممكنا وليس مستحيلا.

الخاتمة

وفي الأخير نستنتج ان البحث في مجال الظواهر الانسانية بطريقة علمية أمر بات محققا واقعيا والفضل يعود إلى الاستخدام المرن للمنهج التجريبي لانه هو احدى السبل الناجحة في فهم الواقع البشري والكشف عن نظمه وقوانينه.

قد يهمك أيضا قراءة

تعليقات