إن إشكالية الشعور بالأنا والشعور بالغير متعددة الأبعاد ،نفسيا واجتماعيا وتاريخيا ، فكل فرد عبارة عن ذات واعية حرة و مسؤولة، باعتباره كائنا قائما بذاته ولذاته، ولكنه كتفكير ليس فردا معزولا عن الأخر أو بالأحرى لا يمكن الإقرار به وبكيانه إلا مع الأخرين حتى تتحقق الغايات والمشاعر والمواقف المشتركة والمعان المختلفة كالحزن والفرح والعداوة والتسامح، فهذه المعان لا تأخذ مكانها إلا داخل الارتباط الكياني بالأخر أو الغير، فكل تلك المقومات لا يصبح لها معنى و لا تؤدي وظائفها إلا بوجود الآخرين الذين يتممون العالم الإنساني، ويحققون وجوده داخل كيان متكامل الذي يعكس تلك العلاقة بيني وبين غيري.
ولقد شاع لدى بعض الفلاسفة أن معرفة الذات لا تتم إلا بوساطة من الغير وبالتالي تشعر الأنا بذاتها،غير أنه توجد أطروحة أخرى تناقضها والتي ترى أن معرفة الذات لا تتم إلا بوساطة من الأنا وبالتالي تشعر الأنا بذاتها دون الحاجة إلى الغير،وهي أطروحة تبدو غير سليمة،ومادام طلب منا إبطالها سنقوم بإثارة التساؤل التالي:كيف يمكننا إبطال الأطروحة القائلة:"اعرف نفسك بنفسك" وتكذيبها بحجج جديدة؟
منطق الأطروحة:
يذهب منطق الأطروحة إلى أن معرفة الذات تقوم على الأنا،وهذا ما ذهب إليه كل من سقراط،، مين دو بيران،هسرل وقد اعتمدوا على مجموعة من المسلمات أهمها:أن الوعي هو أساس شعور الذات بذاتها وليس الغير،وقد اعتمدو على مجموعة من الحجج لتبرير موقفهم أهمها:
أن الانسان يستطيع عن طريق الاستبطان أو التأمل الذاتي وهو ملاحظة داخلية لما يجري في النفس حيث ينقلب إلى شاهد على نفسه ليعلم أن له ذات حقيقية هي التي يبدو بها أمام الناس مخالفا للآخرين جسميا ونفسيا وأخلاقيا بواسطة اللغة فالآنا إذا هو شعور الذات بذاتها و قد أكد الفيلسوف الفرنسي مين دو بيران الرأي بقوله : " قبل أي شعور بالشيء ، فلا بد أن الذات وجود ". و يقول أيضا " إن الشعور يستند إلى التمييز بين الذات الشاعرة و الموضوع المشعور به ".وقد أكد الفيلسوف اليوناني سقراط على أن النفس الانسانية تستطيع تأمل عالمها الداخلي عن طريق وعيها بذاتها وبالتالي تكشف حقيقتها لانها تعي ذاتها دون واسطة من العالم الخارجي،حيث يقول:"اعرف نفسك بنفسك"
مناصري الأطروحة ونقدهم:
يذهب مناصري الأطروحة إلى أن معرفة الذات تتوقف على الأنا وهذا ما ذهب إليه روني ديكارت،حيث اكتفى بالوعي كأساس لمعرفة الأنا،وقد أقر ديكارت على أن الذات تستطيع معرفة ذاتها انطلاقا من نفسها فالوعي هو أساس معرفة الأنا لأناها دون واسطة من الآخرين معتبرا الشك منهج يمكن الذات من البرهنة على قدرتها الواعية والوصول إلى حقيقتها حيث أكد ذلك من خلال المقولة التي تجسد الكوجيتو الديكارتي حيث يقول روني ديكارت:" أنا أفكر إذن فأنا موجود"
لكن روني ديكارت ومؤيديه قد بالغوا فيما ذهبوا إليه من تأكيدهم على الوعي وإهمال الآخر باعتباره شرطا ضروريا لمعرفة الأنا فالدراسات المعاصرة في علم النفس تؤكد على أن الأمراض النفسية سببها تأثر الإنسان بغيره فتشكل له صدما وعقد تنعكس إلى سلوكات لا واعية.
التأكيد على إبطال الأطروحة بحجج جديدة:
يمكننا التأكيد على إبطال الأطروحة القائلة:"اعرف نفسك بنفسك بحجج جديدة أهمها:
أن الذات في حاجة إلى تشكيل علاقة تواصل او تناقض مع الآخر إذ أن الحياة تقم على التجاذب تارة وعلى التنافر تارة أخرى،لهذا كان من اللزوم إعطاء أهمية للغير لكي تكتمل معرفة الذات على ذاتها،فلم تعد الأنا كافية لتغطية معرفتها بذاتها،كما أن الانساني واقعي في حياته ويجب عليه تأمل عالمه الخارجي بواسطة الغير،ويمكننا الاستئناس بموقف المدرسة الوجودية بزعامة جون بول سارترالذي أكد على المغايرة باعتبارها شرطا من شروط الحياة القائمة على التجاذب والتنافر أهمها:أنه لا يمكن إقصاء الآخر الذي يغايرني لأن وجودي متوقف على مغايرته لي. فالموجود لذاته بالإضافة للموجود للأخر الذي يكشف عن الشعور بالخجل الذي هو صورة من صور الوعي، فالخجل صورة ذاتية صرفة والخجل يصلني بنفسي وأيضا أمام شيء ما ، لذا كان وجود الغير واسطة،وظهوره يجعلني انظر إلى نفسي كموضوع فأنا في حاجة إلى غيري وأنا أتعرف على نفسي كما يراني غيري فالوجود لذاته يرتبط بالوجود للغير فهما شكلان لا ينفصلان من الوجود فالعلاقة بين الأنا والأخر هي علاقة وجود فلا ينبغي أن أسعى لفهم وجودي ووجود الآخرين على أنها موضوعات معرفة متبادلة، بل ينبغي أن أتوطد في وجودي، وأن أقيم مشكلة الأخر ابتداء من وجودي.
أن الشعور بالخجل مثلا يكون دونما النظر إلى النفس أو تأملها أو دراستها، فالخجل هو وعي بالخجل وشعور به وهو بذلك يعد حالة ذاتية يصلنا بأنفسنا، لذلك كان وجود الغير واسطة وحضوره يجعلنا ننظر إلى أنفسنا كمواضيع، فنحن بحاجة إلى الغير للتعرف على أنفسنا، لأننا نرى أنفسنا كما يرانا غيرنا، وانطلاقا من ذلك وعلى هذا الاعتبار فالوجود لذاته مرتبط بالوجود للغير، فهما لا ينفصلان عن الوجود، فعلاقة الأنا بالأخر علاقة وجود فمشكلة الأخر تقوم انطلاقا من وجوديويعبر سارتر على موقفه بقوله: "إن العلاقة بين الأنا والأخر ليست في الاعتبار الأول علاقة معرفة، وإنما هي علاقة وجود فلا ينبغي أن أسعى لفهم وجودي ووجود الأخرين على أنها موضوعات معرفة متعادلة بل ينبغي أن أتوطد في وجودي وأن أقيم مشكلة الأخر ابتداء من وجدي" ويقول أيضا:"فإذا لم يكن الأخر حاضرا حضورا مباشرا أمامي، وإذا لم يكن وجوده مؤكدا مثل وجودي فإن أي تخمين عنه يكون خال من أي معنى". كما يعبر أيضا بقوله: "فمن المؤكد أنني لا أخمن وجود الأخر ... وإنما أجد الاخ ر نفسه وأقره باعتبار إياي أي باعتباره كل من عداي."
خاتمة:
“وفي الختام، نستطيع أن نقول إن أطروحة سقراط “اعرف نفسك بنفسك” هي أطروحة غير سليمة وغير مقنعة، فهي تتجاهل دور الآخر في تشكيل الذات ومعرفتها، وتعتمد على الوعي الذاتي الذي لا يكفي لإدراك حقيقة النفس وعلاقتها بالعالم. وقد أثبتنا ذلك من خلال تحليل منطق الأطروحة ومناصريها ونقدهم، وطرح بعض الحجج الجديدة التي تدل على أهمية الغير في تكوين الشعور بالأنا والشعور بالغير، والتي تنتمي إلى مدارس فلسفية مختلفة مثل الوجودية والنفسية. وبذلك، نكون قد أسهمنا في تنوير القارئ عن مشكلة فلسفية مهمة تتعلق بالهوية الإنسانية والعلاقات الاجتماعية. ولكن هل يعني ذلك أننا نملك معرفة كاملة ومطلقة بأنفسنا وبالآخرين؟ أم أن هناك دائماً مجالاً للشك والتساؤل والبحث؟ وما هي العوامل التي تؤثر في تغير الذات وتطورها؟ وكيف يمكننا أن نحافظ على الوعي الذاتي والتواصل الإيجابي مع الغير؟ هذه أسئلة تستحق الاهتمام والمناقشة، ونتركها للقارئ ليستكمل رحلته الفلسفية.”